أجرى الحوار: الطاهر الطويل
عبد المجيد شكير، قاص وكاتب وناقد ومخرج مسرحي مغربي من مواليد مدينة الدار البيضاء سنة 1966، حاصل على دكتوراه في الجماليات المسرحية، وهو عضو في مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، وفي رصيده عدة جوائز الإبداعية، من بينهما جائزة اتحاد كتاب المغرب لدورة 1996 في صنف القصة القصيرة، كما نال ضمن فرقته “مسرح أبعاد” التي يرأسها جوائز قيمة، من بينها: “الجائزة التقديرية” في مدينة قطانيا في صقلية، و”جائزة مهرجان كونكورديا الكبرى” في رومانيا، بالإضافة إلى جائزة “السمكة البهلوان” في مهرجان “هاليفاكس” في كندا.
له مشاركات كثيرة في مجموعة من التظاهرات المسرحية المحلية والعربية، وأنجز مع فرقته العديد من الأعمال المسرحية: “الأشجار لا تموت” (إعدادا وإخراجا)، “الجسر” للكاتبة العمانية آمنة ربيع سالمين (إعدادا وإخراجا)، “أمنية سيئة” (بالفرنسية) لنادية أوبلا إعداد رضوان الركابي (إخراجا)، “حلم ليلة دم” (تأليفا وإخراجا) “الهشيم” للكاتب العراقي عبد الأمير شمخي (إعدادا وإخراجا)، “يوم من زماننا” للكاتب العربي سعد الله ونوس (إعدادا وإخراجا)، “فلاش باك” ليوسف الريحاني (إعدادا وإخراجا)، “المقامة البهلوانية” لعبد الكريم برشيد (إخراجا)، “كومبارس” لمحمد أبو العلا (إعدادا وإخراجا).
وصدرت له دراسات رصينة من بينها: “الجماليات: بحث في المفهوم ومقاربة للتمظهرات والتصورات” عن دار الطليعة الجديدة بسوريا سنة 2004، و”الجماليات المسرحية: التطور التاريخي والتصورات النظرية” عن منشورات مركز إنانا للأبحاث والدراسات والترجمة بالعراق سنة 2005، و”المسرح المغربي بين المضمون الفكري والبعد الإيديولوجي” سنة عن منشورات ومضة بالجزائر 2002، و”عناصر التركيب الجمالي في العرض المسرحي” عن الهيئة العربية للمسرح بالشارقة 2013، و”الاهتمام الجمالي في المسرح المغربي: منعطف التحول من الإيديولوجي إلى الجمالي” عن وزارة الثقافة المغربية 2014.
ارتأينا أن نحاور الفنان المسرحي عبد المجيد شكير حول حضور اللغة العربية الفصحى في المسرح بما أن فرقته “مسرح أبعاد” تقدم الفرقة عروضها بهذه اللغة.
ـ ما منبع هذا الاهتمام القوي لك باللغة العربية؟
ـ في الحقيقة، هي منابع وليست من منبعا واحدا للاهتمام، والأمر يعود إلى زمن سحيق في فترات الدراسة الابتدائية والإعدادية، حيث ابتليت برونق الإلقاء للغة العربية، ثم الاستمتاع بنحوها وبلاغتها. وبعدها اكتمل العشق مع تخصصي في الأدب العربي، قبل التخصص في الجماليات المسرحية، ثم مع اشتغالي أستاذا للغة العربية في الإعدادي والثانوي، قبل الالتحاق بالتعليم العالي وتدريس الفنون والتواصل اللذين لم يمنعاني عن العربية تعبيرا واستعمالا واشتغالا بحثيا.
ـ يُلاحظ أنك تحرص على أن تكون لغة الحوارات في العروض المسرحية التي تتولى إخراجها باللغة العربية الفصحى. إلى ماذا يعزى ذلك؟
ـ لا أخفيك أن الأمر في البداية بدأ اختيارا له علاقة بما تربينا عليه في مسرح الهواة، وما عشناه من متعة وحلاوة اللغة العربية في هذه الممارسة الرائعة للمسرح المغربي في شكله الهاوي، وله علاقة بما سبق أن ذكرته من عشق مكتسب من اللغة العربية، من خلال الدراسة والأستاذية. لكن، بعد هذا اللغط الذي ساد في فترة من الفترات حول العربية وضرورة الدارجة، وأن الفصحى لا تعبر عنا، وعن لغة الخشب… وكذا من الافتراءات، تحول الاختيار إلى موقف. وقررت ألا أتنازل عن اللغة العربية مادة نصية وتعبيرية لمسرحياتي. وهذا ما جعل من ريبرتوار فرقتي “مسرح أبعاد” كله مسرحيات باللغة العربية الفصحى. وسأظل على هذا الموقف حتى إشعار آخر… إلى أن يثبت العكس… علما أنني لست ضد الدارجة المغربية ولا الأمازيغية ولا حتى الفرنسية أو الإنجليزية، بدليل تقديمي مسرحية “لادريسة غلط” بالعامية المغربية صحبة فرقة “مسرح الشمس”، وهي سابقة بالنسبة إلي على كل حال. أحترم كل التنويعات اللغوية والتعبيرية، لكني أنتصر بوضوح للغة العربية الفصحى.
ـ وكيف ترى وَقْعَ تلك العروض المسرحية لدى الجمهور المغربي؟
ـ ليس من المغالاة القول إنه واقع إيجابي جدا. في أحيانا كثيرة كان استعمال اللغة العربية الفصحى سببا مباشرا في نجاحي عرضنا وتركها لبصمات عميقة لدى الجمهور، والغريب أيضا أن هذا الوقع الإيجابي يحصل حتى لدى جمهور المدن الصغرى والبعيدة، التي طالما نُعت جمهورها ظلما وعدوانا انه لا يتفاعل مع الفصحى ولا يتجاوب معها. بل حتى القناة الثانية المغربية التي لطالما صنفت في خانة الفرانكفونية تعاملت مع مسرحياتنا في لحظتين اثنتين، ومنحتنا الشرف أن نكون أول فرقة تقدم لها لقناة عملين مسرحيين باللغة العربية الفصحى.
لذلك، أعتبر الوقع إيجابيا، والتفاعل والاستجابة مشجعين. وإلا لما كنا لعبنا على الاستمرار في هذا النهج.
ـ كانت معظم عروض هواة المسرح في المغرب تقدم باللغة العربية الفصحى، وكان الخطاب المنطوق جزءا لا يتجزأ من باقي خطابات العرض ولغاته المختلفة، أما اليوم، فقد صار التوجه الغالب هو إنجاز العروض باللهجة العامية. كيف تقرأ هذا التحول؟
ـ في الواقع، كانت التجاور واضحا بين الفصحى والعامية، لكن غلبة حضور الفصحى كان لافتا، ذلك أن الاهتمام اللغوي بالفصحى لم يكن مفصولا عن الوضع الثقافي العام، والإعلامي أيضا، كان هناك وعي صريح بكون اللغة العربية الفصحى كيانا قائم الذات وليست مجرد وسيلة تعبير، أي إن اللغة مستويات وسجلات، وكان المستوى العالي وسجل لي الرفيع علامتين دالتين على مستعمل هذه اللغة، سواء في حديثه أو إبداعه، وضمنه المسرح أو إعلامه.
بمعنى آخر، كان الاستعمال اللغوي العربي الفصيح جزءا من رفعة وسمو مستوى مستعمله، وانعكاسا لرقي فكره ومستوى ثقافته وحتى أيديولوجيته. ومسرح الهواة شاءت الظروف أن يكون النوع المسرحي الأكثر حملا لمضمون فكري ولبعدي أيديولوجي، ومسرح ثقافي بامتياز. لذلك أسعفته اللغة العربية الفصحى أن يلعب هذه الأدوار، وحصلت هذه الملاءمة وهذا التلازم بين طبيعة مسرح الهواة وبين مستوى اللغة العربية الفصحى. لكن تحولا سيئا عصف بهذا الرقي والسمو اللذين اتسمت بهما الفصحى، وتصاعدت أصوات تضعها في قفص العجز والقصور، وعدم القدرة التعبيرية عن اليومي، وأنها لغة متخشبة… وما إلى ذلك من ترهات وهرطقات العاجزين عن إدراك عمق اللغة العربية الفصحى وجمالها، زد على ذلك تدني الخطاب الصحافي، وتدني المستوى التعليمي، فحدثت الكارثة؛ لكنها كارثة على المستعمل للغة، وليس على اللغة نفسها، لأنها ما تزال في عليائها تمارس سحرها وجمالها على من يدرك ذلك ويتذوقه من مستعمليها، وتسعف الأوفياء لها بفيض التعبير وجمال التصوير ورقي الإبداع.
ـ ألا ترى معنا أن الأمر ينطبق أيضا على مجال الأغنية أيضا، فبينما تحفل الذخيرة المغربية بأغان كانت تقوم على قصائد فصيحة، صرنا اليوم أمام أغان ذات كلمات عامية مبتذلة؟
ـ طبعا، الأمر غير مفصول عن سياق عام، تحولت فيه القيم الفكرية واللغوية بوجه عام، وما انعكس على الممارسة في المسرحية من ابتذال لغوي نجد تجلياته أيضا على مستوى الأغنية المغربية، فمن يستطيب اليوم ويطرب لأغنية “القمر الأحمر” و”راحلة” و”الشاطئ” و”يا جار وادينا” أمام هذا الزخم الذي يكسّر طبلة الأذن كلمات وألحانا؟ إلاّ من حافظ على سمو ذائقته الفنية، ومن لا يزال يمتلك مناعة فكرية وفنية تقاوم هذا الابتذال المتكاثر يوما عن يوم؟
ـ كيف تنظر إلى مسار “التلهيج” الذي أخذ يطبع فضاءات التواصل عامة، من قنوات وإذاعات ولوحات إشهارية وغيرها…؟
ـ في الحقيقة هو مسار سلبياته أكثر من إيجابياته بكثير، فإذا كان قد قرّب المادة الفنية من الفئات العريضة، خاصة الأمية، لكنه مسار محفوف بمخاطر الابتذال والتسرع في تقديم هذه المادة الفنية، لأن الأمر أكبر من مجرد ترجمة او تحويل إلى عامية مغربية، فهو نوع من “التبييء” (من البيئة) لهذه المادة وفق سياق ثقافي واجتماعي ولغوي، ضروري أن يؤخذ بعين الاعتبار. وإلا آلت النتيجة إلى ما هو عليه الحال.
ـ ما السبيل إلى تنمية الذائقة الجمالية لدى المتلقي المغربي عموما، والناشئة خصوصا، انطلاقا من لغة الضاد؟
ـ السبيل هو واضح نحو تنمية هذه الضائقة الجمالية، وفي مقدمتها الوعي بقيمة اللغة العربية الفصحى، وما تزخر به من قوة تعبيرية وآفاق جمالية واسعة، والتصدي للنظرة القاصرة والمجحفة التي تصور الفصحى أنها لغة خشب وقديمة وغير قادرة على مواكبة العصر. وهذا يتحقق بعودة اللغة العربية الفصحى إلى الواجهة الإعلامية والتعليمية والإبداعية، ومضاعفة حضورها حضورا يليق بقيمتها. وأظن أن هذا سيشكل على الأقل بداية الطريق نحو التصالح مع لغتنا الجميلة، وإعادة الاعتبار لأدورها، ومنسوبها التعبيري والإبداعي.